في البداية كل عام وأنتم جميعا بألف خير، واعذروني على تأخر هذه الهدية لأنني كنت أنوي نشرها منذ فترة ولكن الظروف حالت بيني وبين ذلك.
وقد عثرت على هذا الكتاب صدفة أثناء بحثي في مواقع الشبكة عن المزيد لهذا المنشد، فإذا هو قد ألف أيضا مجموعة من الكتب لم أجد منها سوى هذا الكتاب. وكان النص الذي استخلصته من تحويلي الأول له غير كاف فاعتقدت أنه مجرد سرد لقصة البرزنجي، وبعد أن عدت إليه مؤخرا تبين أنه عمدة في التواشيح والقصائد الملقاة بمناسبة المولد متخللةً لتلك السريدة. ويبدو لي أن هذا الكتاب سيحلّ الكثير من الألغاز ويجيب على عدد من الأسئلة التي كانت تدور في أذهاننا حول كيفية إنشاد التواشيح وتقسيمها وطريقة تصنيفها بحيث يضع تواشيح عادية بالمتون التي اعتدناها وأخرى يطلق عليها اسم "تواشيح باللازمة"، واللازمة هو الاسم الذي كان يطلق في الوقت نفسه على المقطع المكرر من بداية التوشيح بل وعلى البطانة نفسها، وقد تبين أن توشيح "تعلم بكاي ونح يا حمام" (الذي نوقش هيكله وصحة تصنيفه ونسبته إلى قالب التوشيح مؤخرا على صفحات المنتدى) من هذه الفئة. وإضافة إلى هذين النوعين، أورد الشيخ فئة ثالثة من التواشيح ضمن ما أسماه "توشيح دارج" وهي بلا شك على إيقاع الدارج أذكر منها مثالا لا حصرا مما أعرفه "يا من له في البرايا" و"اعمل بآثار النبي" و"بالله يا باهي الشيم" و"كل صدر منهم"، ويبدو أن الشيخ إبراهيم المغربي أستاذ الشيخ سكر كان ممن أسسوا لهذا التأطير، ولو أنني لا أفهم السبب في اختيار إيقاع الدارج دون غيره من الإيقاعات إلا أن يكون أكثرها استخداما بين الأوائل، وهو ما أرجحه شخصيا لكثرة التواشيح التي وصلتنا منه تحديداً.
ومرة أخرى نعود إلى إشكالية تفرقة الإنشاد الديني عن فنون الغناء الدنيوي وتحديدا الموشح والدور والخط الدقيق الفاصل بين الفنين والذي ينتفي شيئا فشيئا في كل مرة يصلنا فيها المزيد من أحاديث المنشدين القدامى، بل ولعله يتلاشى كليا بعد قراءة هذا الكتاب وطريقة تقسيم بعض التواشيح إلى أدوار، ولا أدري إن كان حالها مثل حال قالب الدور يُكتفى فيها ب"دور" أو اثنين على أن يُنشَد الباقي حسب ما يريده المؤدي، والتوشيح على الأقل يختلف في أنه ووفقاً لهذا التقسيم لا يبتدئ بمذهب، بل قد تحل محل المذهب لازمة تكررها البطانة بعد كل دور، والنماذج في الكتاب من التواشيح ذات الأدوار كثيرة إلا أنه لم يصلنا منها حتى الآن سوى القليل، ومع هذا فالأدوار في التواشيح التي استطعت استخلاصها ومعرفتها متطابقة في اللحن على العموم كما هو حال الأدوار المختلفة في الدور الواحد، وإنما تُترَك للمؤدي حرية التصرف والارتجال لزخرفة اللحن مجددا وإضفاء صبغة جديدة عليه تبعد عنه طابع الرتابة وانتقاء ما يريده من الأدوار، وإن كان الشيخ سكر نفسه قد حاول أن يكون مرتجلا في أدواره في التوشيحين الذين أذكرهما مما ينطبق عليه هذا التقسيم "تعلم بكاي" و"إن قلبي استهام"، وهما من "تواشيح اللازمة"، وبالطبع فإن اللازمة المكررة في كل منهما لا علاقة لها بالأدوار الآتية بعدها. ومع ذلك، فإن ما وصلنا من التواشيح ذات الأدوار المتعددة قليل نسبة إلى ما وصلنا من تواشيح بشكل عام، ويبدو أن المتأخرين من أمثال مرسي ودرويش الحريري وسيد شطا قد آثروا تلحين التواشيح الخالية من الأدوار باستثناء بعض تواشيح الأخير للشيخ طه الفشني في برنامج "السيرة العطرة" مثل "حيوا ربيب العلا" الذي هو مثال جلي لتواشيح اللازمة وإن كان تكوينه أقرب إلى الأغاني و"الأناشيد" المعاصرة.
ولا عجب إذا أجاب الكتاب عن بعض تساؤلاتنا أن يطرح أخرى عن ملحني كل توشيح وبعض المعلومات عنه، وإن حاول الشيخ أن يورد ملاحظاته وتعليقاته القيمة (مع قلّتها) عن طريقة إنشاد التوشيح وملحنه ومقامه أحياناً وصولا إلى إفراد بعض الأبواب للتواشيح الملحنة على مقام معين (العراق مثلا) مع وضع التواشيح الملحنة على المقامات الأخرى بشكل عشوائي دون ترتيب. ولئن كانت مسألة التصنيف بحد ذاتها لم تُعَر ما يكفي من الاهتمام في الكتاب، فإنني أتساءل عن سر تصنيف الشيخ بعض القطع وتجاهله لتصنيف الأخرى، ولا أجد لذلك تسويغاً يقنعني إلى جانب تفضيل الشيخ مقاماً معيناً إلا أنه حاول أن يحاكي مولداً كاملاً من بدايته إلى نهايته بكل وصلاته مع تضمينه الأبيات المرسلة التي يفرّد بها المنشد، والتي لربما قصد بوجودها أن تهيئ له الانتقال من مقام التوشيح السابق إلى مقام الذي يليه، وهي فرضية غير مستبعدة في اعتقادي خصوصاً وأن الشيخ كان يقطع سريدة البرزنجي ويخللها ما كان ينشده من تواشيح أو قصائد أو ما شابه. ولقد سرد الكتاب بعض التواشيح التي نعرفها والتي ذكرتها آنفا، كما ساهم في تصحيح اسم أحد تواشيح الشيخ علي محمود الذي أخطأت أنا إدراك اسمه عند فهرستي له ضمن مواد أرشيف الشيخ، وهو "بصبا الحجاز"، لا "بصفا الحجاب" كما فهمته أنا أو "بصفا الإيجاب" كما فهمه مصطفى سعيد (نطق الشيخ علي الغريب لحرف الحاء لا يخفى عليكم وقد يقف عائقا أمام فهم بعض الكلمات).
وفي النهاية لا بد لي من أن أتقدم إلى عمرو بجزيل الشكر، فقد تحملني في الأيام الأخيرة وقدم لي مشكورا أكبر مساعدة في هذا الصدد عبر ترتيب الكتاب وتنسيق نصوصه بعد تحويله على محرك آخر من محركات التعرف الضوئي على الحروف ocr لتسهل علي قراءته، وذلك بعد أن أعيتني قراءة الأبيات في نسختي التي كانت مرتبة بشكل عشوائي لقراءة البرنامج إياها بشكل أفقي بينما كانت موضوعة بالفعل بشكل عمودي (أو العكس)، على أمل أن أكون قد وفقت وإن قليلاً في التعليق على الكتاب وإبداء ملاحظاتي في انتظار آرائكم وتعقيباتكم القيمة على محتواه.